نبذة مقتطفة من كتاب حجر وطين
بقلم آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
ولد الشيخ قاسم محي الدين في سنة 1314هـ ، وتوفي في سنة 1376هـ .
كان منزلي ومنزل أخي الشيخ علي الفقيه وصهرِنا الشيخ رضا فرحات , قريبا من منزله في محلة العمارة في النجف الأشرف najaf ashrsf، قرب" القباب الزرق " مقابر آل كاشف الغطاء . وكنا نتلاقى معه في منازلنا وفي منزله وفي الطريق ، وأظهر صفاته أنه كثير الحفظ ، مولعاً بحفظ الألفاظ اللغوية وضبطها واستحضار الغريب منها ، متخصّصاً بعلم العروض ، محيطاً به ، وكان بيته منتدى يلتقي به أهل الأدب والظرف ، وكان يتقصد جمعهم لهذه الغاية ، و يقدم لمن يتأخر منهم عنده ليلا ما يتمكن عليه من الطعام الحاضر .
وكان عنده مكتبة ثمينة ، فيها مخطوطات manuscripts كثيرة ، منها كتب بخطوط أربابها ، ومنها كتب العلامة الحلي ، وخطه يكاد يكون غير مقروء حسبما أتخطر ، ويقال ان ولده الوحيد فخر المحققين هو الذي كان يحسن قراءتها وأنها لولاه لضاعت .
وقد عرض علينا كتاباً مخطوطاً manuscript، كتب على أول ورقة منه جدولاً في شكوك الصلاة ، قال في أوله :
هذا الجدول منسوب للإمام العلامة الشيخ علي الفقيه العاملي أو للإمام العلامة الشيخ احمد ابن الشيخ علي الفقيه العاملي - الترديد مني لاني دونت هذا في وقت متأخر بعد مضي زمن عليه .
والتقيت به مرة حوالي سنة 1354هج وهو ذاهب الى منزله ، وأنا عائد من درس أستاذنا السيد حسين الحمّامي المجاور له ، التقيت به عند القباب الزرق ، وهو يحمل سمكة كبيرة ، فسلمت عليه وقلت مرتجلا :
قل لابن محي الدين في علمه ولابن محي العلم في دينه
ان كنت ذا النون فاني امـرؤ رغبت أن آكل من نونـــه
ثم افترقنا والتقيت بالشيخ محمد حسين الزّين ، فتلوت عليه البيتين ، فقال :
لا يطمع العاقل في نونه فانه غاص بعرنينه
وكان رحمه الله عظيم الأنف ، وكان هو نفسه يحفظ مقاطيع تتعلّق بالأنف الكبير ، علق منها في ذهني قول القائل :
لك أنف يا ابن عوف أنفت منه الأنـــــوف
أنت في الركن تصلي وهو في البيت يطوف
وقد طبع له في حياته عدّة دوواين وأراجيز في مواضيع خاصة ، معظمها أو كلّها تتعلق بأهل البيت (ع) ، وله قصائد أخرى مطوّلات ، وقد تكون مقاطيعه لا تكاد تحصى ، وشعره من قسم الوسط .
نمُوذَج من شِعْرهِ
في سنة 1353 هج تقريباً ، استدعاه بعض أرحامه من سكان جبل عاملjabal amil لزيارة جباع jubaa ، فزارها وخالط علمائها وأعيانها وأهل الأدب فيها ، ولعله كرر الزيارة وأرسل بهذه المناسبة قصيدة مطولة الى عمنا العلامة الشيخ محمد رضا الزين ، وأجابه بقصيدة مماثلة لها.
وأحفظ له من قصيدة أخرى أرسلها بهذه المناسبة قوله :
وعلى إمام الفقه يوسف حجة الإسلام من ساوى الرضي المرتضى
ذاك الذي ملأ الصدور بفضلــــــه حنقا فحركها عليه وحرضا
إنما علقا بذهني ، لأنهما يتعلقان بالشيخ الوالد ، ولأنه كان يكررهما علينا عندما كنا نجتمع به ونتبادل المجاملة معه .
ومن أراد المزيد عنه فليراجع تتمة أمل الآمل للدكتور عبد الرزاق محي الدين ، وهو من أبناء عمومته ، ولعله ابن عمه القريب به ، وهو كتاب مطبوع وعندنا منه نسخة إلا أنها بعيدة عنا فعلا.
حَدَثٌ وحَدِيثٌ تَارِيخيّان
واليك القصة التالية التي تعطيك صورة عن مكانة المترجم له في آخر أيامه ، وتشتمل على حديث تاريخي أدبي ، قد لا تجده في غير هذا الكتاب (حجر وطين) ، بل تشتمل على أحداث :
كان الشيخ محمد علي الحوماني العاملي طالب علم ديني في النجف ، فلبث فيها نحو سنة أو سنتين ، ثم ساءت صحتُه بسبب رداءة الطقس وشظف العيش ، فعاد الى وطنه جبل عامل jabal amil، وزاول فيها ما يزاوله أمثاله ، وكان يمارس الشعر ويحاول في شعره معالجة المشاكل المعاصرة بحماس وجُرأة ، فلمع نجمه حتى صار يُعدُّ من شعراء العرب في وقته ، ومن شعراء الجنوب البارزين بجدارة واستحقاق .
وكانت مجلة العرفان الشهيرة في ذلك الوقت منبراً له ، وكان صاحب العرفان يمهد له ويشجعه ويميز قصائده بالإخراج .
ثم اختاره الملك عبد الله ملك الأردن لتعليم أولاده ، وبقي شهوراً أو أكثر ، وكانت ميول صاحب العرفان هاشمية ، ولا أظن الحوماني يفترق عنه ، والذي أظنه أن استدعاء الملك عبد الله له رفع من مكانته .
ثم انتشر اسمه في المهجر ، وكان المهاجرون يتوقون الى وجود عالم ديني شيعي بينهم ، وكان العلماء يرَون السفر الى المهجر أشبه بالتعرّب بعد الهجرة .
وأخيراً استدعوه ، ظناً منهم أنه عالم ديني منفتح ، وأنه يتلائم مع الأجواء التي يعيشونها ، ويكون وجوده بينهم ضمانة لصيانة أبنائهم وأحفادهم من الضياع ، لان كل من وُلِدَ لهم في المهجر لا يجد طريقاً للتعرف على لغته العربية ، ولا سبيلا الى معرفة الدين الإسلامي .
ويوجد عندي رسالة أو أكثر موجهة للشيخ الوالد من الشيخ عبد اللطيف الخشن باسم المغتربين ، يشكون هذا الأمر ، ويستصرخون ضمير العلماء الصالحين المصلحين ، ولكن الظروف بأجمعها لم تكن تسمح بشيء من ذلك .
ولما وصل إليهم استقبلوه استقبال القائد الفاتح ، ثم التفوا حوله أجمع .
وكأنني أتخطر انه حدَّث : بأنه خطَب المهاجرين عند وداعهم ، وحرَّضهم على العودة الى بلادهم لإعمارها والعمل فيها ، وأنه أنشدهم بقوله :
تَطَلع عا راس الجبل واشْرِفْ على الوادِيْ
وبْقُولْ طَابْ الهَنا نَسَّمْ هوى بلادي
ولعله أنشدهم أيضا :
يا مْفَرعَا بالنَّدى رُدِّي على نْهُودِك
وبْخَاف مرِّ الهوى يجْرَحْ لِكْ خدُودِك
تمنِّيتْ حَالِي سِوَار الماسِ بزنُودِك
ما بفَارِقِكْ يا بَــنـِيّـَا ساعة زمانِيَّة
قال : فأجهشوا بالبكاء ، واستخرج كل منهم منديلا وجعل يكفكف دموعه .
ثم التقيت به مرة أخرى عند آية الله الحكيم ، ولم يكن ثمة غيرى وغيرهما ، فتحدّث بإيجاز حول حاجة المهاجرين الى الوعي الديني ، وعن تقطيع أوصال المسلمين وجهل بعضهم ببعض .
ثم بمناسبةٍ ما ، ذَكَر الشيخ محمد جواد شرّي ، وقال : لا ينبغي ان يُصدق فيه ما يقال عنه ، لأنه يتطلب معالي الأمور .
وكانت انطباعاتي عنه : انه مترسّل في حديثه ، حَسَن الأسلوب ، بليغ العبارة يستولي على شعور المستمع .
وفي أواخر أيام المرجع الأعظم في وقته السيد أبو الحسن الأصفهاني ، كنت عصراً في منزل العلامة الشيخ علي العسيلي العاملي ، المجاور الى منزلنا ، فجاءني شخص يخبرني ان الحوماني ورد النجف ، وانه نزل ضيفاً عليَّ وهو في البيت ، فاستدعيته الى منزل الشيخ علي ، وكان العامليون مجتمعون فيه بمناسبة تعزية سيد الشهداء ، إلا ما شذّ وهم يومئذ يقاربون العشرين شخصاً ، وكلهم متميزون في السن والعقل والصلاح .
فقلت لهم قبل وصوله إلينا : الحوماني جاء الى النجف ليُعلن توبته أمام العلماء ، وسيكلفني بأمر لا أستطيع ان أجيبه عليه ، وبينما نحن كذلك دخل علينا ، فاستقبلناه بحفاوة تليق به ، ولمّا استقرَّ به المجلس ، شرَع في الحديث عن مراحل الإنسان وتطوّراته في حياته ، وما يحيط بها من نقصٍ وأغلاط ، فإذا انتهى الى دور الكمال تنبَّه الى أغلاطه وندم على ما كان ، والتجأ الى الله سبحانه ، وأصبح يسير على هدى العقل ، وقد قلت عنه سابقا : إن حديثه موجز ، وأنه جذاب .
واعلم ان بعض ما ننقله عنه وعن غيره يحمل صورة للقارئ عما كان ، لا أنه نفس ما كان .
ثم في أواخر النهار خرجنا نقصد منزلنا ، فالتقينا قبل الدخول اليه بالشيخ قاسم محي الدين ، وكأنه كان عارفاً بمجيء الحوماني ، فترخص مني بصحبته الى منزله ، فبادرت بالموافقة بدون أيَّة معارضة لأمور كثيرة :
منها : ان بيتي لا يتسع لاستقبال أمثاله ، ولعله عندما قصد الضيافة عندي كان يتخيلّني ممن يستعد ويسعد بأمثال هذه الضيافة .
منها : ان أعمالي اليومية المتعلقة بالدرس والتدريس تكاد تستغرق الوقت بكامله ، ولا أظنه يحصل مني على أكثر من ساعة وان طال مكثه عندي .
ومنها : ان طباعي لا تنسجم مع طباع الناس الذين سيتصل بهم ويتصلون به .
ذهب الى منزل الشيخ قاسم وبقي في ضيافته نحو ثلاثة أشهر ، وكان ديوان الشيخ قاسم في كل ليلة مَجْمعاً للشعراء والأدباء وأهل الظَرَف ، وأصبحت تلك الليالي شبه سوق عكاظ ، إلا أنها خالية من التجارة ، ولا أتخطر أنني اجتمعت معهم طيلة هذه المدة أكثر من مرتين ، وكنت أذهب بعد صلاة المغرب وأمكث نحو الساعة قبل تكامل الوافدين .
وكان السيد محمد جمال الهاشمي الكلبيكاني يحمل إلي بين حين وآخر معلومات عن تلك النّدوات ، وكان هو والشيخ عبد الغني الخضري في طليعة فرسانها المثابرين عليها .
والشيخ عبد الغني شاعر نجفي مُكثر ، وشعره وسط ، يعود نسبه لآل كاشف الغطاء ، وكان جلداً صبوراً في المتناقضات التي تحتوي عليها أمثال هذه الندوات ، ولا أشك ان جملة من أصدقاء الحوماني ومن طلاب الشهرة والتعرُّف أقاموا له الولائم ، أنهم كانوا على العادة يجمع كل منهم مَن يَمُتُّ اليه .
وبعد وصوله بمدة يسيرة اتضح ان هدف الحوماني هو الحصول على وكالة من المرجع الديني الوحيد في ذلك الوقت السيد أبو الحسن ، والوكالة في عرفنا ذات أهمية تشبه صكا بالولاية ، يحمله شخص الى منطقة معينة من قبل الخليفة .
إنها ليست سلطنة ولا سلطة ، ولكنها نيابة في تبليغ الأحكام وبيان الحلال والحرام وقبض الأموال الشرعية التي ترسل عادة الى المرجع من المؤمنين ، وهذه الولاية يحتاج حاملها الى صفات أمثلها ان يكون مُتفقهاً في الدين ومعروفا بالورع ، ولا أقل من الأمانة ، والمرجع لا يتسرع ، ولكنه قد يخدع ، ولكن الله سبحانه يهيئ له من يسدده ، واعتقد ان السيد محمد جمال الذي كان يظن الحوماني انه سيعاونه ، سبقه الى المرجع وأعطاه صورة عن واقعه ، ولا ريب ان المرجع كان يعرف عنه الشيء الكثير لشهرته وتجواله وتحركاته .
ثم أخذ له موعداً ليتشرف بزيارة السيد أبو الحسن ، فزاره ، وأخبرني من حضر ولا أظنه غير السيد محمد جمال : ان السيد استقبله باحترام ، وأنه كان كلما تكلم الحوماني مع السيد ابتسم له السيد وأجابه باللغة الفارسية ، حتى كأنه لا يعرف شيئا من اللغة العربية ، ومن اجل ذلك لم يعرف الحوماني الى أين وصل معه ، ثم خرج ولم يحصل على شيء .
وقد بلغني انه عندما تحدَّث عن لقائه للسيد في صحيفةٍ كان يصدرها هو أو في صحيفة غيرها ، تحدَّث عما كانت توحيه اليه ابتساماته الجميلة وعيناه البراقتان .
وهكذا استطاع السيد بحنكته واقتداره ان يتخلص مما يريده الحوماني ، واستطاع الحوماني باقتداره وسموِّ أدبه ان يُعوِّض عن فشله بالتحدث عن وحي النظرات ولغة الابتسامات .
فَوَائِد في اعتذَار
طالَ الحديث حول الشيخ قاسم والحوماني ، ولكنه يعطي للقارئ صوراً عن
ستة أشخاص ، مضاف الى أمور أخرى ، أما الأشخاص فهم :
1- السيد أبو الحسن الأصبهاني .
2- المؤلف .
3- السيد محمد جمال الهاشمي .
4- الشيخ عبد الغني الخضري .
5- الشيخ قاسم محي الدين .
6- الشيخ محمد علي الحوماني .
وأما الأمور الأخرى فهي :
1- لمحة عن المرجعية .
2- لمحة عن المجالس الأدبية في النجف .
3- لمحة عن حياة طالب العلم الديني في النجف وان طال عليه الزمن وبلغ القمة ، من حيث الصبر على الحرمان من الكماليات بل والضروريات ، ومثابرته على الدرس والتدريس .
|