ترجمة السيد محمد حسن فضل الله
وفي مجلة العرفان – العدد الأول 15 ك2 – 1973 – صفحة 129 – المجلد 61
ترجمة كبير علماء الطائفة الشيعية في لبنان المرجع الديني حجة الإسلام المقدس السيد محمد حسن فضل الله (قده)
1310هـ - 1392هـ
لأول مرة، منذ خمسة وعشرين عاماً، والمصلون في مسجد برج البراجنة، بدون إمام.. فلقد ترك جار المسجد جواره، واختاره الله إلى جوار رحمته ورضوانه.
لأول مرة، منذ ربع قرن أو يزيد، يخيم الصمت المثقل بحرقة الهجر، على منبر الجمعة في ذلك المسجد الكبير العتيق، ولكنك تتلمس من خلال هذا الصمت هيمنات، هي رجع الصدى لصيحات الحق والهدى (عباد الله، أوصيكم بتقوى الله..) يرفعها ذلك الإمام، مفتتحاً بها خطبة الجمعة، لتشع في نفوس المؤمنين الوافدين من كل صوب، وكأنها سكب ضياء.
أجل لأول مرة تصحو بلدة برج البراجنة، وهي محط رحال الثلث الأخير من الحياة الزمنية للرجل الفاضل، للعلامة الجليل الذي كان، ويصحو معها لبنان، من أقصاه إلى أقصاه، فإذا بالذي كان ملء السمع والبصر، واعظاً وهادياً، مبشراً ونذيراً (..والعصر، إنّ الإنسانَ لفي خسر) يغدو روحاً ترفرف في الملأ الأعلى، لتبدأ مسيرة الخلود اللا متناهية.
لقد مات السيد محمد حسن فضل الله، فأحسسنا، نحن الذين مازلنا في الحياة الدنيا، بترابيتنا، أن المصباح الذي كان يؤنس وحشة الأنفس في ظلمة هذا الوجود، قد انطفأ، فأرتعشت القلوب لرهبة الفراغ.
ولكنه هو، رجعت روحه الطاهرة إلى ربها مطمئنة، راضيةً مرضية..رجعت خصلة الضياء إلى موكب النور السرمدي في عليين، مع الشهداء والصديقين، في جنّة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين.
ولعله تكريم من الله سبحانه وتعالى، أن يتوفاه في صباح يوم جمعة، اليوم العظيم في حياة المسلمين الذي جعل له الراحل الجليل تاريخاً نورانياً جديدا، عندما بدأ إقامة شعائر صلاة الجمعة لأول مرة في مسجد برج البراجنة، منذ خمسة وعشرين عاماً، فاستقطب حوله المئات من المؤمنين، من الأخوة في الله، يأتمون به، مترسمين خطاه على دروب الرشاد، فكانت هذه البادرة الرائدة منطلقاً لإقامة صلاة الجمعة في كل المساجد، التي لم تشهد من قبل أداء هذا الواجب المقدس!!
ولقد نعته الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان، عبر الإذاعة والتلفزيون وفي الصحافة، كما لم ينع علم من أعلامها المرجعيين منذ عهد بعيد، وانتشر الخبر في كل البلاد، وفي عواصم العالم الإسلامي، فإنهالت برقيات التعزية تشاطر الطائفة الكريمة أساها، وخفت وفود المعزين، رغم رداءة الطقس وهطول الأمطار، إلى النادي الحسيني الكبير في برج البراجنة، يتقدمهم ممثل فخامة رئيس الجمهورية، ودولة الرئيس كامل الأسعد، ودولة الرئيس صائب سلام، وسماحة المفتي الأكبر الشيخ حسن خالد، والوزراء والنواب، وكبار الشخصيات الرسمية والروحية والمدنية، للمواساة والمشاركة في المصاب الجلل.
وفي اليوم التالي، يوم السبت في 4تشرين الثاني 1972،كان اليوم المشهود، يوم الوداع الكبير للراحا العظيم.
في منزل الفقيد المجاور لمسجد المنشية، حيث سجي الجثمان الطاهر، تجمعت مئات النسوة النائحات يبكين مآثر الأب الروحي لجميع المؤمنين والمؤمنات، ومن خلال التأثر لسماع تلاوة فصول من سيرة أبي الشهداء الحسين (ع).
وفي النادي الحسيني، في حي الرمل، تلاقى ألوف المشيعين في القاعة الكبرى وفي الساحة المحيطة بها،وقد جاء معظمهم من مختلف الأنحاء اللبنانية، ينتظرون ساعة قيام المسيرة، بقلوب لهفى!
أما في مجلس النواب، كانت هناك أيضاً رفة حزن واسى تغمر القلوب.. وأقل الوفاء، للرجل الذي كان في المتقين إماماً، كما كان في دعاة التوحد و جمع القلوب في محراب المحبة رائداً، أن تنعكس صورة العرفان والتقدير، في النفوس والضمائر في محراب بيت الأمة.
فلقد كان قبل ظهر نفس اليوم (السبت) موعد إنعقاد جلسة مناقشة في مجلس النواب.
وقبيل الساعة الواحدة ظهراً والجلسة ما زالت في أوجها، اضطر الرئيس كامل الأسعد، لإعلان رفع الجلسة إلى الساعة السابعة مساء، لكي يتسنى له المشاركة مع نواب الطائفه وعدد كبير من نواب الطوائف الأخرى ومع الحكومة، في تشييع جثمان العلامة الراحل.
وقال الرئيس الأسعد، في حينه: "إن المغفور له العلامة السيد محمد حسن فضل الله، له من مكانته الدينية والشخصية، ما يستوجب حداد جميع المؤسسات الرسمية، وليس فقط رفع الجلسة، بالإضافة إلى المشاركة في واجب تشييع جثمانة"
وأضاف الرئيس الأسعد، أن هنالك العديد من النواب على اختلاف مذاهبهم، يودون المشاركة في هذا الواجب الإجتماعي.
وعلى الأثر إنتقل الرئيس كامل الأسعد والرئيس صائب سلام، وبعض الوزراء، وعدد كبير من النواب، لملاقاة موكب الجنازة.
وفي الساعة الواحدة تحرك الموكب الجنائزي المهيب، من منزل الفقيد، تحف به كلمات الوحي من قارئ القرآن، وقد حمل المشيعون الجثمان على الراحات، وكل منهم مزاحم، تدفعه الأثروة بالاجر والتبرك بالمشاركة في حمل النعش، وطافوا به في شوارع بلدة برج البراجنة، حتى وصلوا الى النادي الحسيني، ومن ثم التحمت جموع المشيعين في موكب زاخر.
وانطلقت مسيرة التشييع صوب جادة المطار.. العلماء ورجال الدين وفي طليعتهم سماحة الإمام السيد موسى الصدر مع الشخصيات الرسمية، يتقدمون الموكب .. وأمام النعش، إنتظم طلاب المدارس في صفين طويلين، يحملون أكاليل الزهور.
وفي مطار بغداد، كان ممثل رئيس الجمهورية العراقية في مقدمة المستقبلين، مع العلماء وعدد كبير من الشخصيات.
ومن هناك، إنطلق الموكب الجنائزي الجديد، متابعاً رحلة النهايه، في السيارات حتى بلغ مدينة كربلاء. وإتخذ النعش طريقه محمولاً على الأكف وسط الخضم الهائل من المشيعين قدروا بأربعين ألفاً، يحف به كبار الرسميين والعلماء.
وما أن وصل الموكب إلى النجف حتى أقفلت أسواق المدينة المقدسة، ورفعت رايات الحداد، وسار خلف النعش كبار العلماء المرجعيين، ورجال الدولة.
ولقد قام بتأبين الراحل الكبير بعض المراجع الدينيين منوهين بمكانته في العالمين العربي والإسلامي، وتمت مراسل الدفن، في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الاحد، في غرفة مجاورة لمقام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وقرئت الفواتح عنروحه الطاهرة طيلة أربعة أيام في مساجد المدينة، كما هي العادة في مناسباة وفاة العلماء الأعلام.
وفي لبنان، أعلن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الحداد على الفقيد الكبير، واعتذر سماحة الإمام السيد موسى الصدر واعضاء المجلس عن عدم إستقبال المهنئين، بمناسبة عيد الفطر المبارك.. واستمر تقبل التعازي في النادي الحسيني في برج البراجنة على مدى سبعة أيام.
وتكريماً للعلامة الجليل أحيت الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان ذكراه في مهرجانين خطابيين كبيرين (في ذكرى السابع وذكرى الأربعين). وقد التقى فيهما نخبة من رجال الفكر والقلم، على تقييم وإجلال هذه الشخصية الفذة بين العلماء الأركان!
ويسر"العرفان" أن تساهم من جانبها في هذا التكريم، فتنشر في هذا الملحق الخاص، نصوص الكلمات والقصائد التي ألقيت في هاتين المناسبتين، متمنية للمرحوم المقدس، خلوداً في جنات النعيم، وللطائفة الشيعية وآل فضل الله جميعاً، أن يجزيهم عنه جزيل الثواب.